كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما جواب ابن حزم فهو قوله: إن ابن عباس أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر من عروة، وأنه يعني ابن بعاس خير من عروة وأولى منه بالنَّبي، والخلفاء الراشدين، ثم ساق آثارًا من طريق البزار وغيره عن ابن عباس، يذكر فيها التمتع، عن أبي بكر، وعمر وأن أول من نهى عنه معاوية، ولا يخفى سقوط كلام ابن حزم المذكور في رده على عروة بن الزبير رضي الله عنهما.
أما قوله: إن ابن عباس أعلم من عروة، وأفضل فلا يرد رواية عروة بسند صحيح عن الخلفاء الراشدين: أنهم كانوا يفردون كما ثبت في صحيح مسلم. وابن عباس لم يعارض عروة: بأن فعلهما كان مخالفًا لما ذكره عروة من الإفراد، وإنما احتج بأن أمر النَّبي أولى بالاتباع من أمرهما، وقد أجابه عروة بأنهما ما فعلا إلا ما علما من النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه أكمل وأتبع لسنته صلى الله عليه وسلم. وأما الآثار التي رواها من طريق ليث وغيره بأنهما ما فعلا إلا ما علما من النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه أكمل وأتبع لسنته صلى الله عليه وسلم. وأما الآثار التي رواها من طريق ليث وغيره فلا يخفى أنها لا تعد شيئًا مع ما ثبت في الصحيحين عنهم من الروايات التي لا مطعن فيها أنهم كانوا يفضلون الإفراد.
ومن فهم كلامهم حق الفهم أعني الخلفاء الراشدين علم أنهم رضي الله عنهم يعلمون جواز التمتع والقران علمًا لا يخالجه شك، ولَكِنهم يرون أنه أتم للحج والعمرة أن يفصل بينهما كما لا يخفى والمعنى غير خاف، بل هو ظاهر من سياق السؤال والجواب لمن تأمل ذلك، ومما يدل على صحة ما ذكره عروة بن الزبير في حديث مسلم المذكور من أن الخلفاء كانوا يفردون ما ثبت في الصحيحين من نحو ذلك، عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «بعثني النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن، فجئت وهو بالبطحاء، فقال: بما أهللت؟ قلت: أهللت كإهلال النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني، أو غسلت رأسي، فقدم عمر رضي الله عنه فقال: إِن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمر بالتمام قال الله {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة} وإنْ نأخذ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإِنه لم يحل حتى نَحرَ الهدي». انتهى منه ونحوه أخرجه مسلم أيضًا.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور: محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة، أن كتاب الله دال على منغ التحلل لأمره بالإتمام، فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا دالة على ذلك، لأنه لم يحل، حتى بلغ الهدي محله، لَكِن الجواب عن ذلك: هو ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم حيث قال «ولولا أن معي الهدي لأحللت» فدل على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر أنه منع منه سدًا للذريعة، وقال المازري: قيل: إن المتعة التي نهى عنها عمر: فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: العمرة في أشهر الحج، ثم الحج من عامه. وعلى الثاني: إنما نهى عنها ترغيبًا في الإفراد الذي هو أفضل، لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها. وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليه، كما رواه مسلم بناء على معتقده: أن الفسخ كان خاصًا بتلك السنة.
قال النووي: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد، كما يظهر من كلامه، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة، وبقي الاختلاف في الأفضل انتهى الغرض من كلام ابن حجر في الفتح وهو واضح في أن عمر رضي الله عنه ما كان يرى إلا تفضيل الإفراد على غيره، وشاهد لصحة قول من قال: إنه حج بالناس عشر حجج مفردًا، وقال مسلم بن الحجاج رحمه اله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث، عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القران قد نزل منازِلَهُ. فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة، وحدثنيه زهير بن حرب، حدثنا عفان، حدثنا همامٌ، حدثنا قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث «فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم، وأتم لعمرتكم منه».
وهو دليل على ما ذكرنا من أن عمر رضي الله عنه: يرى أن الإفراد أفضل، ويدل على صدق من قال: إنه حج عشر حجج بالناس مفردًا كما تقدم.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُندَرٌ، حدثنا شُعبة، عن الحَكم، عن علي بن حُسين، عن مروان بن الحَكم قال: شهدت عثمان، وعليًّا رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما الحديث. وفيه التصريح، بأن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يرى أفضلية الإفراد على غيره لنهيه عن التمتع والقران الثابت في الصحيح كما رأيت.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة قال: قال عبد الله بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان على يأمر بها الحديث.
وفيه التصريح بنهي عثمان رضي الله عنه، عن التمتع، وبما ذكرنا كله تعلم: أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلهم كانوا يرون الإفراد أفضل، وكان هو الذي يفعلونه كما رأيت. الروايات الصحيحة بذلك، وهو المعروف عنهم رضي الله عنهم فما ورد مما يخالف ذلك فهو مردود بما رأيت.
تنبيه:
فإن قيل: هؤلاء الذين يفضلون الإفراد، كمالك، والشافعي، وأصحابهما، وكأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ومن ذكرنا سابقًا ممن يقول: بأفضلية الإفراد على غيره، من أنواع النسك بأي جواب يجيبون عن الأحاديث الصحيحة الواردة: بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا والأحاديث الصحيحة الواردة، بأنه كان متمتعًا والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه أمر كل من لم يسق هديا من أصحابه، بأن يتحلل من إحرامه بعمرة، فالذين أحرموا بالإفراد أمرهم بفسخ الحج في عمرة، والتحلل التام من تكل العمرة وتأسف هو صلى الله عليه وسلم على أنه ساق الهدي الذي صار سببًا لمنعه من التحلل بعمرة وقال «لو استقبلت من أَمري ما استدبرت لما سقت الهدْيَ ولجعلتها عمرة» مع أَنه صلى الله عليه وسلم لا يتأسف على فوات العمرة، إلا وهي أفضل من غيرها والقران الذي اختاره الله له لا يكون غيره أفضل منه، لأن الله لا يختار لنبيه في نسكه إلا ما هو الأفضل.
فالجواب: أن المالكية والشافعية يقولون: إن التمتع الذي أمر به صلى الله عليه وسلم من كان مفردًا وذلك بفسخ الحج في العمرة، لا شك أنه في ذلك الوقت، وفي تلك السنة أفضل من غيره، ولَكِن لا يلزم من أفضليته في ذلك الوقت، أن يكون أفضل فيما سواه.
وإيضاح ذلك: أنه دلت أدلة سيأتي قريبًا تفصيلها إن شاء الله، على أن تحتم فسخ الحج المذكور في العمرة، وأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به خاص بذلك الركب وبتلك السنة، وأنه ما أمر بذلك لأفضلية ذلك في حد ذاته، ولَكِن لحكمة أخرى خارجة عن ذاته: وهي أن يبين للناس، أن العمرة في أشهر الحج جائزة، وما فعله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به للبيان والتشريع، فهو قربة في حقه، وإن كان مكروهًا، أو مفضولًا، فقد يكون الفعل بالنظر إلى ذاته مفضولًا أو مكروهًا، ويفعله النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو يأمر به لبيان الجواز فيصير قربة في حقه، وأفضل مما هو دونه بالنظر إلى ذاته كما هو مقرر في الأصول، وإليه أشار صاحب مراقي السعود بقوله:
وربما يفعل للمكروه ** مبينًا أنه للتنزيه

فصار في جانبه من القرب ** كالنهي أن يشرب من فم القرب

وقال في نشر البنود في شرحه للبيتين المذكورين: يعني، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل المكروه المنهي عنه، مبينًا بذلك الفعل، أن النهي للتنزيه لا للتحريم، فصار ذلك الفعل في حقه قربة يثاب عليها لما فيه من البيان، كنهيه عن الشرب من أفواه القرب، وقد شرب منها انتهى منه.
وليس قصدنا أن التمتع والقران مكروهان، بل لا كراهة في واحد منهما يقينًا، ولَكِن المقصود بيان أن الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، يكون بهذا الاعتبار أفضل من غيره، وإن كان غيره أفضل منه، بالنظر إلى ذاته وهذه هي الأدلة الدالة، على أنه فعل ذلك لبيان الجواز ولذلك يختص بذلك الركب، وتلك السنة.
الأول: منها حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي قدمناه قال: «كانوا يرون العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال الحل كله» قالوا: فقوله في هذا الحديث المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم: أن يجعلوا حجهم عمرة، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل، وقد تقرر في مسلك النص، ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف: التعليل، كما قدمناه مرارًا قالوا: فقول من زعم أن قوله في الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، لا ارتباط بينه، وبين قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر السقوط كما ترى، لأنه لو لم يقصد به ذلك، لكان ذكره قليل الفائدة.
ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد بن السري، عن ابن أبي زائدة، ثنا ابن جرير، ومحمد بن إسحاق، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم، كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر. فكانوا يحرمون العمرة، حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم. اهـ.
وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى: أن حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور، دال على ذلك، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازمًا، لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور، كما دل عليه حديثه، وهو يرى بقاء حكمه، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ولَكِن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك.
الدليل الثاني من أدلتهم: على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز، وأنه خاص بذلك الركب، وتلك السنة، هو ما جاء من الأحاديث دالًا على ذلك، قال أبو داود في سننه: حدثنا النفيلي، ثنا عبد العزيز يعني ابن محمد، أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: «بل لكم خاصة». اهـ.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبدالعزيز، وهو الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال «بل لنا خاصة». اهـ.
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا أبو مصعب، ثنا عبدالعزيزي بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل لنا خاصة».
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: وحدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عياش العامري، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة يعني: المتعة في الحج. وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن فضيل، عن زبيد، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء، ومتعة الحج، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن بيان، عن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء، قال: أتيت إبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام، فقال إبراهيم النخعي: لَكِن أبوك لم يكن لِيَهُمَّ بذلك، قال قتيبة: حدثنا جرير، عن بيان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه: أنه مَرَّ بأبي ذر رضي الله عنه بالزبذة فذكر ذلك له فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم.
وقال البيهقي وغيره من الأئمة: مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة: المتعة التي أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة. واستدلوا على أن الفسخ المذكور: هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد، يعني ابن السَّري، عن ابن أبي زائدة: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن سلم بن الأسود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للرَّكب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذه الرواية التي في سنن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه، بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم، وضعفت رواية أبي داود هذه، بأن ابن إسحاق المذكور فيها مدلس. وقد قال عن عبد الرحمن بن الأسود: وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث، حتى يصح السماع من طريق أخرى. ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين:
الأولى: أن مشهور مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله: صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، كما قدمناه مرارًا.
والثانية: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يزيل الإبهام ولو قرينة أو غيرها، كما هو مقرر في الأصول. وقد قدمناه مرارًا أيضًا.
وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين.
الأولى منهما: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه فيه ابنه الحارث من بلال، وهو مجهولن قالوا: وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في حديث بلال المذكور: هذا الحديث لا يثبت عندي، ولا أقول به، قال: وقد روي فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابيًّا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ قالوا: وحديث أبي ذر، عند مسلم موقوف عليه، وليس بمرفوع، وإذا كان الأول في سنده مجهول، والثاني موقوفًا تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج.
الجهة الثانية: من جهتي رد الحديثين المذكورين: هي أنهما معارضان بأقوى منهما، وهو حديث جابر المتفق عليه: أن سراقة بن مالك بن جعشم، سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «بل للأبد» وفي رواية في الصحيح فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال «دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد» ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج، قالوا: ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح. وقد قال ابن حجر في التقريب فيه: هو مقبول، قالوا: واعتضد حديثه بما رواه مسلم عن أبي ذر، كما رأيته آنفًا قالوا: إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه، فهو حديث صحيح له حكم الرفع، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال، كما يدل عليه كلام عمران بن حصين الآتي. وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه، وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة، إلا وهو عارف صحة ذلك، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه قالوا: ويعتضد حديث الحرث بن بلال المذكور أيضًا بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان على الإفراد، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره، لما هو معلوم من تقاهم، وورعهم، وحرصهم على اتباع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور. وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار، كما أوضحه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند مسلم. قالوا: ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشيم المدلجي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وإجابته له بقوله: بل للأبد لا يستقيم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث: أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعًا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى، لأنهما صادقان، وليس بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معًا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين: أن حديث بلال بن الحرث المزني، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة: التحتم والوجوب، فتحتم فسخ الحج في العمرة، ووجوبه خاص بذلك الركب، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر: بل للأبد، محمول على الجواز، وبقاء المشروعية إلى الأبد. فاتفق الحديثان.